التعليم عن بعد في حلقات - الحلقة 5 - بعض الإكراهات واقتراح الحلول
لقد أصبح التعلم/التعليم الإلكتروني ضرورة حتمية لا يرتقي العمل التربوي إلا بها، وحاجة فرضتها ظروف العصر، إذ التطور المعرفي والتكنولوجي السريع وأنماط العمل والعيش والحياة المعاصرة، أثرت كلها، على منظمات وهيئات وبنيات المجتمع، كما أدت إلى ضرورة البحث في المجال التربوي عن أفضل الطرق والأساليب التي تساعد المتعلمين على التعلم والتكوين بشكل أجود وبفعالية أكثر. هذا فيما يخص المجتمعات ذات الوفرة في الإمكانيات والإمكانات وذات التدبير والسياسات ذات الحكامة الجيدة، أما في المجتمعات النامية وذات الحكامة الضعيفة والناقصة، فهي تواجه مشكلات واختلالات تدبيرية وإكراهات بسبب السياسات المتبعة البعيدة عن الاهتمام بالقطاعات الاجتماعية والإستراتيجية.
سنخصص هذه الحلقة للتحدث عن أهم الإكراهات التي تواجه تنزيل التعليم عن بعد وتطبيقه واعتماده في المؤسسات التعليمية بالخصوص.
هكذا وبعد بحث هنا وهناك، وقفت على أن إكراهات تنزيل التعليم عن بعد تختلف شيئا ما من مجتمع إلى أخر حسب خصوصيات كل دولة وكل نظام تعليمي معتمد فيها. لهذا، وانطلاقا من خصوصيات بلدنا، يسمح المجال هنا للحديث عن خمسة إكراهات على الأقل هي التي تقف حاجزا أمام تطبيق وتعميم التعليم عن بعد سنأتي على ذكرها تباعا مع مناقشتها وطرح بعض المقترحات لتجاوزها ومعالجتها إن توفرت الإرادة لدى جميع الفاعلين في هذا القطاع الحيوي والاستراتيجي بامتياز، وجائحة ''كورونا'' ربما قد تحاول العمل على إعادة النظر في مجموعة من السياسات والاختيارات وترتيب الأولويات نظريا وقولا على الأقل ولحد الساعة، في انتظار العمل والتطبيق والتجسيد، وإلا كان كل ذلك كلاما في كلام وكلام الليل الذي يمحوه النهار.
✍ الإكراه الأول: البنية التحتية اللازمة
هي أولى الأولويات في كل عمل ناجح ومثمر، إذ هي وسائل العمل والاشتغال، وبدونها يستحيل الفعل. بهذا الصدد أطلقت بلادنا برنامجا وطنيا ''برنامج جيني منذ 2009'' كان في بدايته طموحا، حيث أقر بتزويد كل المؤسسات التعليمية بالعتاد الإلكتروني الضروري (حواسيب، انترنيت وأجهزة أخرى في المجال)، لكنه سرعان ما تبخر بعد تزويد مجموعة من المؤسسات بعتاد أصبح غير صالح وغير مفعل في نسبة كبيرة من المؤسسات لكونه يحتاج إلى إصلاح وتجديد وتطوير، أما عن صبيب الأنترنيت فهي إما ضعيفة جدا وإما منعدمة (الوسط القروي). هذا في الوقت الذي عملت الكثير من الدول على تجهيز المؤسسات بوسائل وبعتاد ملائم وصبيب قوي وكذا تزويد المتعلمين بلوحات إلكترونية لتتبع دروسهم عن قرب وعن بعد أيضا.
إن الاستثمار في الموارد البشرية هي أنجح سياسة، وها نحن نرى أمام أعيننا اليوم نتائج ذلك، وقد أدت جائحة كورونا إلى الكشف على ذلك، حيث القصور المسجل في ذلك رغم الحماس الذي أبداه الكثير من الفاعلين، وحيث سلوكات مجموعة من الناس ''قليلي التربية وضعيفي الوعي'' اتجاه الحجر الصحي المطبق التي لا تنم عن أي وعي حقيقي اتجاه هذا الخطر المحيط بالجميع.
ما ينقص بهذا الصدد ليست هي الإمكانيات، بل الإرادة وربط المسؤولية بالمحاسبة، أي الحكامة الجيدة أولا وأخيرا. وعليه، ولتجاوز هذا الإكراه ''المفتعل''، يجب تزويد كل المؤسسات التعليمية بما يلزم من العتاد الضروري وصبيب الانترنيت الكافي، فذلك من شأنه أن يوفر الأرضية الصلبة للانطلاق الحقيقي نحو المستقبل. إنها مسؤولية الحكومة والجماعات المحلية وجميع الفاعلين الاقتصاديين بالبلاد. كفى من تلك النظرة التي كونها المسؤولون ودفعوا بالكثير إلى تكوينها حول المنظومة التعليمية، وكفى تبخيسا لدور المدرسة في تنمية المجتمع وفي تطوير وتربية المواطنين وتوعيتهم وتنشئتهم التنشئة السليمة. كفى اعتبار التعليم قطاعا غير منتج وغير صالح، وهاهي ''كورونا'' تعلم الجميع ما ينبغي فعله وما يجب الاهتمام به أكثر. فهل سيعي الجميع الدرس ؟
✍ الإكراه الثاني: التكوين الأساسي والمستمر
علاقة بالنقطة الأولى، وارتباطا مع برنامج ''جيني'' السالف الذكر، فقد تقرر العمل في القطاع على تكثيف التكوين واستمراريته حتى يستفيد منه جميع الفاعلين في أفق حسن استعمال واستثمار هذه الوسائل بالشكل المطلوب، بل والعمل على تطوير العمل وتجويده لمسايرة العصر والمساهمة في الإنتاج والإبداع.
هكذا انطلق التكوين لفائدة البعض خلال السنوات الأولى من المشروع، وبعد ذلك بقليل، توقف كل شيء كما توقفت أعداد كبيرة من قاعات الإعلاميات بعدد من المؤسسات ليترك ذلك جانبا في عدة حالات وتم نسيان أو إهمال ذلك. ودليل ذلك على سبيل المثال هو ما نشاهده من صعوبات في تنزيل التعليم عن بعد بسبب الجائحة الحالية (مقاومة كبيرة بسبب ضعف التكوين ونقص العتاد وتواضع الإنجازات والإبداع، اللهم ما تم انجازه من طرف أساتذة كونوا أنفسهم بأنفسهم وبعتادهم الشخصي وصبيب الأنترنيت الذي يؤدون ثمنها من جيوبهم).
علاوة على توفير العتاد، يجب إقرار برامج حقيقية ومضبوطة للتكوين الأساسي قبل التخرج وللتكوين المستمر خلال الحياة المهنية. وبدون ذلك ستستمر الرداءة والضعف وتكبر المقاومة ولن يتحقق الشيء الكثير في هذا المجال.
بعد التطور الحاصل في عالم التعليم عن بعد، يجب الاستعانة بالتكوين المستمر الحضوري وعن بعد كذلك، كما يجب الاهتمام في البداية بتطوير وتنمية الموارد البشرية قبل أن تطلب منها العطاء. إنها لغة الاستثمار واعتمادها بهذا الصدد من ضروريات الحياة. لابد إذن من سن برامج تكوينية لهيأة التدريس وأخرى لهيأة التدبير والإدارة وثالثة لهيأة المراقبة التربوية وهكذا ذواليك ولنجعل تنمية البشر فوق كل اعتبار لسنوات قادمة، وبعد ذلك يمكن أن ننتظر النتائج السارة والمبهرة بكل تأكيد.
لابد أيضا من إقرار حصص دراسية واجبة وخاصة للتلاميذ وللمتعلمين عموما ولم لا لأولياء أمورهم بطريقة أو بأخرى لإعداد أرضية صلبة لانطلاق التعليم عن بعد بكيفية صحيحة، ولا بد أخيرا من تسهيل الولوج إلى عالم الأنترنيت للجميع. إنه عمل وطني حقيقي يجب على الجميع الانخراط فيه: كفى من التهميش ومن النظرة الربحية الجشعة التي يتسلح بها ويعتمدها البعض.
✍الإكراه الثالث: تمثلات ونظرة المجتمع إلى التعليم عن بعد
كثيرة هي أشكال وأنواع وأنماط المقاومات وردات الفعل اتجاه هذا النوع من التعليم التي نشاهدها أو نسمعها أو نسمع بها خصوصا بعد اعتماده من طرف الوزارة بسبب جائحة ''كورونا'' التي تضرب جل بقاع العالم. لقد كثرت وتعددت المقاومات حد التنكيت عليها وفيها وعنها وحد السخط والرفض القاطع لها، وأمثلة ذلك كثيرة خلال هذه الأيام ومتداولة على مختلف منصات التواصل الاجتماعي. فمن أسباب ذلك الأساسية كون التعليم عن بعد جديد عندنا كمجتمع وكأسرة ومستجد كذلك، وإذا علمنا أن كل جديد يلقى في طريقه مقاومة حتى يصبح مألوفا، فلن نستغرب كثيرا من ردود الأفعال تلك.
لكن الشيء المهم الذي ينبغي استخلاصه بهذا الصدد هو جهلنا لهذا المستجد من حيث أهميته وقيمته وضرورته ومنافعه ومحاسنه، وهذه من أسباب رفضه رفضا قاطعا لدى شرائح معينة من المجتمع. لكن، وبمجره حصاد وتلمس نتائجه سيكون لا محالة في المقام الأول من اهتماماتنا جميعا، خصوصا إذا تم العمل على أن يكون في متناول الجميع، قدرة واستطاعة وتناولا. بإمكانه أن يبعد عن الجميع الكثير والكثير من السلوكات السلبية التي ينميها فينا ويغذيها الاستعمال الكبير لوسائل تكنلوجية المعلوميات، سواء في صفوف الكبار أم الصغار، في المجالات والقضايا التافهة ولصالح المعرفة وتطوير الذات وتنمية كفايتنا كل حسب اهتماماته.
بهذا الصدد أيضا، لابد من نهج سياسة مخطط لها مسبقا، تستهدف تصحيح تمثلات الناس وتصوراتهم حول هذه الوسائل وهذه التكنولوجية، ولابد من استثمار جميع وسائل الإعلام مثلا من أجل تحقيق ذلك: فهذه الوسائل ضرورية وتحمل من الإفادة الشيء الذي لا يمكن تصوره فمثلا: يمكن أن نجد في عالم الأنترنيت كل ما نحتاجه في كل مجالات الحياة، وهي ليست للاتصال فقط أو للتصوير والدردشة... لا ينبغي أن ننسى هنا دور الجمعيات وكل مكونات المجتمع المدني، فدورها أساسي وقائم ومصيري كذلك. فبرامج التوعية ودورات مختلف التكوينات بهذا الصدد من الأشياء المطلوبة علاوة على مبادرات أخرى هي من صميم إبداعات مكونات المجتمع المدني برمته وبمختلف تلاوينه ومجالات اشتغاله.
✍الإكراه الرابع: الاعتراف بشواهد التعليم عن بعد
قد يستفيد الفرد أو مجموعة من الأفراد في دورات تكوينية عن بعد، وهذه حقيقة قائمة، وبعد حصولهم على شهادة النجاح أو الاعتراف باستفادتهم من الدورة وتمكنهم من بعض الكفايات والأعمال، لمن تلك الشواهد لا يتم الاعتراف بها كليا وبصفة جدية، خصوصا عندما يتعلق الأمر بالتوظيف أساسا، لتبقى تلك الشواهد تغني فقد السيرة الذاتية أو المهنية لذلك الشخص، قد تنفعه وقد لا تنفعه. هذا ما يجعل التعلم عن بعد يتلقى ضربة قوية أحيانا. لهذه الأسباب، ينبغي للحكومات أن تتفاعل بجدية وبإرادة حقيقية من أجل رد الاعتبار لهذه الشواهد وتثمين مثل هذه التكوينات وتشجيعها بل وإقرارها وتحصينها قانونيا وتشريعيا حتى يتسنى للتعلم عن بعد من أن يلعب الدور المنوط به. المهم لابد من تأطير مثل تلك الشواهد وتنظيمها ومنحها الصبغة القانونية ولو بمزيد من الضبط والتحكم وبمزيد من الشروط والضوابط القانونية.
كل هذا، إذا ما تم تفعيله، سيمكن فئات عريضة من المجتمع، من التعلم والتعليم ونشر المعرفة والوعي وتنمية الخبرات والكفاءات وتخريج مزيد من الأطر وتجويد كثير من الخدمات والقطاعات الإنتاجية المختلفة. فهل سيأخذ المسؤولون هذه المهام بالجدية اللازمة وبعين الاعتبار في سبيل تحقيق التنمية الحقيقية في مختلف المجالات ؟
✍الإكراه الخامس: الأمن المعلومياتي
يتعلق الأمر هنا بإمكانية تعرض المضامين والموارد ومختلف الوثائق الرقمية للاختراق أو التلف أو الضياع أو التغيير بسبب قراصنة الانترنيت أو بسبب آخر من الأسباب. وهذه حقيقة ممكنة وواقعية، لكن بمزيد من التأمين المعلومياتي وبمزيد من التحصينات والاحتياطات من قبل المسؤولين ومن طرف حتى مجموع الفاعلين والمعنيين، يمكن تجاوز ذلك وتخفيض تلك المخاطر إلى الحدود المقبولة والأكثر أمانة. إنها ظاهرة ملتصقة على الدوام بعالم المعلوميات، ومن الصعب إلغاؤها أو الحد منها بنسبة مائة في المائة، مادام الخير يرافق دائما وأبدا الشر، فأنى تجد المحارب للفيروس تجد من يصنعه، وهذا مجال آخر ليس هنا مقامه. بقليل من الحذر واليقظة، نستطيع تجاوز هذا الإكراه.
إنها مجموعة من الإكراهات التي تعيق صراحة قيام التعليم عن بعد ببلادنا، وها نحن نرى أن ما ينقصنا من أجل الدخول في هذا العالم هو الإرادة الصلبة والحقيقية للمسؤولين أولا، ولباقي الفاعلين الاقتصاديين والتربويين والمدنيين والاجتماعيين ثانيا. ونرجو أن تكون جائحة ''كورونا'' من أسباب إيقاظ الضمائر وتصحيح المواقف والتمثلات في أفق تصحيح السياسات والتخطيطات الاستراتيجية للحاضر وللمستقبل.
بقلم: ذ. محمد صادقي